أسطورة "الكرازة المرقسية."
هل تعلم عزيزي القارئ أن "الكرازة
المرقسية"، هي مجرد أسطورة لا يوجد لها أصل تاريخي.
الكرازة المرقسية تشير إلى تقليد مستقر في الكنيسة
الأرثوذوكسية، يقول بأن القديس مرقس هو أحد الرسل السبعين للمسيح وعن ذلك يقول
مثلا، الأنبا غريغوريوس: "كان القديس مرقس في أورشليم في وقت ظهور السيد المسيح، فكان من أوائل من آمنوا
به وقبلوا دعوته، فاصطفاه من جملة السبعين رسولاً" (موسوعة
غريغوريوس، الجزء 3، ص217.) وأنه أتى
إلى مصر وبشر فيها بالمسيحية وأنه أول أساقفتها، فتقول المؤرخة القبطية، إيريس حبيب
المصري: " ومرقس – بالنسبة
للمسيحيين في أنحاء العالم – هو أحد الأربعة الذين كتبوا الإنجيل. أما بالنسبة لنا
معشر القبط فهو كاروز ديارنا المصرية وحامل بشرى الخلاص ومؤسس الكنيسة والبابا
الأول للإسكندرية." (قصة الكنيسة القبطية، الباب الأول ص: 20.)
فالتقليد كما ذكرت لك، يرتكز على هاتين المعلومتين
الأساسيتين: مرقس أحد السبعين رسولا، وأنه أتى مصر وأسس كنيسته بالإسكندرية. يأخذ
المسيحي القبطي هاتين المعلومتين بالتلقي حتى تصبحا عنده أشبه بالعقيدة، فهو لا
يحتاج لبرهان، فقد تلقاهما منذ صغره من الأشخاص الذين يثق بهم، وانطبعتا في ذهنه
هكذا دون أن يتبادر إلى ذهنه أي تساؤل حولهما أو عن مصادر ذلك التقليد أو صحته.
أما عن الأسس التي يعتمد كهنة الكنيسة عليها
للتأصيل لذلك التقليد، فيقول القمص عبد المسيح بسيط بكل ثقة:
"يؤكد جميع الدارسين أن
القديس مرقس كان هو الشاب الذي تبع يسوع ليلة القبض عليه والذي كان لابساً إزاراً
على عريه فأمسكه الشبان. فترك الإزار وهرب منهم عرياناً." (الكتاب
المقدس يتحدى نُقاده والقائلين بتحريفه، ص: 124)، وبالطبع
فالدارسين لم يجمعوا على شيء من هذا القبيل، بل إن المؤرخين ينكرون كون مرقس أحد
السبعين، فمثلا أندرو ميلر يرى بأن
"مرقس هذا لم يكن
رسولاً ولا واحداً من السبعين" (مختصر تاريخ الكنيسة، ص: 59) فمرقس كما
هو معروف تاريخيا، كان مترجما ومساعدا لبطرس أحد التلاميذ، فهو في "أحد تابعي بطرس" كما قال يسوابيوس
القيصري المؤرخ الكنسي الشهير (تاريخ
الكنيسة، ص: 72)، أما بابياس أسقف هيرابوليس 118م، كما
نقل عنه يوسابيوس أيضا،
فيقول عن مرقس أنه "لا سمع للرب ولا
اتبعه." (تاريخ الكنيسة، ص177.) وقد تطول
الشهادات بالمقال، لكنها لا تخرج عن هذا المعنى. فتلك كانت الركيزة الأولى
للتقليد. أما الثانية فلم تكن أكثر حظا من سابقتها، فلو صدقنا بالادعاء التقليدي
للكنيسة، وأقررنا بأن مرقس هو أحد تلاميذ الرسل، فهل يمكن قبول كونه مؤسس الكنيسة
السكندرية وأول بابواتها؟ فالحقيقة أن هذه المعلومة التقليدية، مبنية على إشاعة!
فأقدم مصدر عنها هو ما نقله المؤرخ الكنسي يوسابيوس في القرن الرابع
الميلادي، حيث يقول: "يقولون أن مرقص هذا
كان أول من أرسلوا إلى مصر، و أنه بشر بالإنجيل الذي كتبه، و كان أول من أسس كنائس
بالإسكندرية" (تاريخ الكنيسة، ص: 73.) فلعلك تلاحظ كلمة
يقولون، فهذه المعلومة التي هي أساس بنيت عليه كنيسة كاملة، تاريخها يرجع لمئات
السنين، يستند على كلمة مثل تلك، لم يقدم يوسابيوس عليها أي دليل. علاوة على أن
ذهاب مرقس إلى مصر أصلا هو محل شك تاريخي، إن لم يكن محل إنكار ورفض فكما يقول
المؤرخ إيرنست رينان: "فإن الملامح العامة لحياة مرقص معروفة وهي في روما و ليس الإسكندرية." (The History of the Origins of
Christianity, V4, p. 82)، أما المؤرخ الكبير بروس متزجر
فيقول أن "زمن قدوم المسيحية في
مصر , و من أدخلها إليها , غير معروف على الإطلاق." (The Early Versions of the New
Testament, p.99)
ولو تتبعنا الآباء الأولين سنجد أن كلا من: بابياس (القرن
الثاني)، إيرينيئوس (القرن
الثاني)، وحتى إكليمنضس السكندري (القرن
الثاني وبدايات الثالث)، جميعا لم يذكروا قصة قدوم مرقس لمصر وتأسيسه للكنيسة بها.
ولم تعرف هذه المعلومة قبل يوسابيوس وجيروم في
القرن الرابع. وبدون تقديم أي دليل على هذه المعلومة بل كما يقول المؤرخ المعروف بروس متزجر، أنها
"بناء على تقليد رواه
يوسابيوس مستندا إلى شائعة، تقول إن مرقص الإنجيلي هو أول من أسس الكنائس
بالأسكندرية." (The Early Versions of the New
Testament, p.99).
فلماذا إذا تم تأسيس هذا التقليد، الغير مستند على
أي أسس تاريخية، بل هو متعارض أصلا مع ما وصل إلينا من التاريخ وشهادات الآباء
الأوائل. والأكثر من ذلك أنه تم اعتباره من المسلمات البديهية في العقل القبطي،
حتى تطور الأمر إلى أن يصبح مصدر الفخر والمباهاة للكنيسة.
وعن سبب اختراع الكنيسة لذلك الادعاء وتمسكها
الشديد به، يقول إيرنست رينان: "إن التقليد القائل بكرازة القديس مرقص في الإسكندرية هو أحد الاختراعات
المتأخرة سعت الكنيسة الكبيرة من خلاله أن تعطي لنفسها صلة رسولية." (The History of the Origins of
Christianity, V4, p. 82) فالسبب كما اتضح، هو أن الكنيسة تريد أن تعطي لها
ولبابواتها وسلطتهم قداسة خاصة، عن طريق ربطها بالرسل، فادعوا أولا أن مرقس هو أحد
السبعين رسولا، ثم ادعوا أنه أتى إلى مصر وبشر بها وأصبح البابا الأول للكنيسة
التي أسسها في الإسكندرية. ولا عجب في سعيهم في ذلك، فقد سبقتهم الكنيسة
الكاثوليكية في نسبة تأسيسها إلى بطرس، ويعتبر الكاثوليك أن البابا يجلس على كرسي
بطرس، فكما قال رينان أنه "حين زعمت كل الكنائس أساسا رسوليا لها، فإن الكنيسة السكندرية، التي كان لها
بالفعل مكانة ملحوظة، أرادت أن تنسب لنفسها ألقابا تكريمية لم تكن تمتلكها." (The History of the Origins of Christianity,
V4, p. 82) فكانت تلك المنافسة على الألقاب وعلى السلطان
الرسولي، هي الدافع، وأيضا فإن هذه الصلة تعتبر دليلا على صحة العقيدة، فهي موروثة
عن الرسل.
ويلخص لنا بروس متزجر
كل ما سبق في هذه الجملة قائلا إن "معظم العلماء يعتبر التقليد بدور مرقص في تأسيس الكنيسة السكندرية هو أسطورة
محضة." (The Early Versions of the New
Testament, p.99) وهو ما يؤيده جان ماسون
اليسوعي بالقول "استناداً إلى كلمة ( يقال ) الواردة في تاريخ يوسابيوس ، أيد الجميع في وقت
لاحق قدوم مرقس إلى مصر وتطورت واكتملت مع مرور الزمن ما ينبغي أن نسميه أسطورة
القديس مرقس." (إنجيل
يسوع المسيح، للقديس مرقس، ص: 24)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق